لماذا تفشل معظم الأبحاث العلمية في التحول إلى منتجات حقيقية؟
هل يمنع النظام الأكاديمي الباحث من التحول إلى رائد أعمال؟ يستكشف هذا المقال العلاقة بين البحث والابتكار، ولماذا يبقى العديد من الباحثين داخل أسوار الأكاديميا بدلًا من تحويل أفكارهم إلى مشاريع ريادية قابلة للتطبيق.

الباحث بين وهم المعرفة وعقلية السوق
في عالم البحث الأكاديمي، هناك حدود غير مرئية، أسوار عالية تفصل بين الباحث والعالم الخارجي، بين المختبر والمصنع، بين الورقة العلمية والمنتج الحقيقي. هذه الأسوار ليست مصنوعة من الفولاذ أو الخرسانة، بل هي أكثر تماسكًا من ذلك. إنها مصنوعة من أفكار، من أنظمة تعليمية، من معايير ترقية أكاديمية، من سلطة علمية تفرض تعريفها الخاص للنجاح، ومن ثقافة متجذرة ترى في البحث العلمي غاية في ذاته وليس وسيلة لتحقيق أثر في الواقع. منذ سنوات، يحاول البعض فك هذا اللغز: لماذا لا يستطيع الباحث الأكاديمي التفكير كرائد أعمال؟ لماذا يضيع في دوامة نشر الأوراق العلمية بدلًا من العمل على تحويل أفكاره إلى مشاريع قابلة للحياة؟ هل هو ضعف في التفكير الاستثماري؟ أم أن المشكلة أعمق من ذلك، متجذرة في بنية النظام الأكاديمي نفسه؟
بين الباحث ورائد الأعمال: لماذا يفشل الباحث في رؤية الصورة الكاملة؟
في جوهره، الباحث الأكاديمي يدور حول الأسئلة، بينما رائد الأعمال يدور حول الحلول. الباحث يطرح سؤالًا معقدًا، يقضي سنوات في تفكيكه، يبحث عن كل فرضية ممكنة، ويجمع البيانات لإثبات أو دحض ادعاء معين. أما رائد الأعمال، فهو يبحث عن مشكلة مؤلمة في السوق، ثم يركز جهوده على إيجاد طريقة لحلها بأسرع وأبسط طريقة ممكنة. الباحث يريد الدقة، رائد الأعمال يريد السرعة. الباحث يخشى الأخطاء، رائد الأعمال يتقبل الفشل كجزء من العملية. هذه الفروقات ليست مجرد تفضيلات شخصية، بل هي ناتج ثقافة أكاديمية رُبّي فيها الباحث منذ أيامه الأولى في الجامعة. من اللحظة التي يقرر فيها دخول مسار البحث العلمي، يتم تعليمه أن قيمته تكمن في "إنتاج المعرفة"، وليس في "تطبيقها". يقال له أن الورقة العلمية الجيدة يجب أن تكون محكمة، معقدة، مكتوبة بلغة لا يستطيع فهمها إلا المختصون. كلما زادت تعقيداته النظرية، زاد احترامه في مجاله. في المقابل، رائد الأعمال يتعلم أن الفكرة الجيدة هي الفكرة التي يمكن شرحها في دقيقة، والتي يفهمها الجميع، والتي تحل مشكلة يواجهها الناس يوميًا. هنا يكمن جوهر المشكلة: الباحث الأكاديمي لا يُدرَّب على تبسيط أفكاره، بل على تعقيدها. في حين أن السوق لا يهتم بالنظريات، بل يهتم بالحلول القابلة للتطبيق.
كيف تستنزف الجامعات الباحث وتحوله إلى آلة لنشر الأوراق؟
هناك اعتقاد سائد بأن الباحث الأكاديمي هو شخص حر، يفكر ويبحث ويكتشف دون قيود. لكنه في الحقيقة مقيد بنظام صارم، لا يسمح له بالخروج عن حدود معينة. الترقية الأكاديمية، التي تعد الحافز الأساسي لأي باحث، لا تعتمد على مدى تأثير أبحاثه في المجتمع، بل تعتمد على عدد الأوراق التي ينشرها. بمعنى آخر، لا يهم إذا كان بحثه سيؤدي إلى اختراع جديد أو إلى منتج يغير العالم، ما يهم هو أنه قد نُشر في مجلة ذات معامل تأثير مرتفع. هذا النظام لا يعترف بالمحاولات التي لا تصل إلى ورقة منشورة. لا يكافئ الباحث على تجربة تقنية جديدة لم تنجح، بل يكافئه فقط إذا كتب عنها بطريقة تبدو ناجحة. لا يهتم إن كان بحثه قد أدى إلى تطوير جهاز جديد أو خدمة مفيدة، طالما أنه لم يترجم ذلك إلى صياغة أكاديمية تنتهي على صفحات المجلات العلمية. في هذه البيئة، يصبح الباحث عالقًا في حلقة مفرغة، حيث يكون دافعه الأول هو النشر، وليس التطبيق. فهو يحتاج إلى النشر للحصول على الترقية، ويحتاج إلى الترقية للبقاء في المنظومة الأكاديمية، ويحتاج للبقاء في المنظومة لأنه لا يرى بديلاً عنها. وهكذا، يتحول الباحث إلى كاتب محترف للأوراق البحثية، أكثر من كونه مفكرًا حقيقيًا يسعى لإحداث تغيير في الواقع.
كيف تم عزل الباحث عن عالم الاستثمار والتطبيق؟
عندما يقترب الباحث من عالم ريادة الأعمال، يجد نفسه في بيئة مختلفة تمامًا عن التي اعتاد عليها. لا يوجد نظام صارم للنشر، لا توجد مجلات محكمة تحدد من هو الأفضل، لا توجد ترقيات أكاديمية تمنحه الأمان الوظيفي. هناك فقط سوق، أشخاص لديهم احتياجات ومشاكل، ومستثمرون يبحثون عن عوائد مالية. في هذه البيئة، لا يتم تقييم الأفكار بناءً على مدى تعقيدها الأكاديمي، بل بناءً على مدى قابليتها للتطبيق وربحيتها. بالنسبة للباحث، هذه صدمة ثقافية. فهو قد اعتاد على إثبات صحة أفكاره من خلال الاقتباسات الأكاديمية، بينما المستثمر يريد أن يرى إثباتًا على أرض الواقع، في صورة عملاء، تجارب، نتائج ملموسة. الباحث يخشى أن يتم تبسيط فكرته، بينما المستثمر لا يملك الوقت للغوص في التفاصيل الدقيقة. هذا التباين في التفكير يجعل الباحث يشعر بالغربة في عالم ريادة الأعمال. بل في كثير من الأحيان، يجعله ينظر إلى هذا العالم بنوع من الاستعلاء، كما لو كان شيئًا أقل قيمة من "العلم النقي". إنه لم يُدرَّب على التفكير في الجدوى الاقتصادية، ولم يتعلم كيف يسوّق لفكرته، ولم يتعلم كيف يحولها إلى منتج حقيقي يخدم الناس.
ماذا لو كان النظام الأكاديمي نفسه مصممًا لإبقاء الباحثين داخل أسواره؟
إذا نظرنا للأمر من زاوية أوسع، سنجد أن النظام الأكاديمي لا يفشل فقط في تعليم الباحثين كيفية تطبيق أبحاثهم، بل يبدو وكأنه مصمم خصيصًا لإبقائهم داخل أسواره، بعيدًا عن العالم الحقيقي. من الناحية الاقتصادية، الجامعات تستفيد من بقائهم، لأنهم يدرّسون ويشرفون على أبحاث الطلاب الجدد، مما يضمن استمرارية النظام الأكاديمي نفسه. دور النشر العلمية تستفيد من بقاء الباحثين في هذه الحلقة، لأنهم يوفرون محتوى مجانيًا لمجلاتها. المؤسسات العلمية تستفيد، لأن الباحثين يخلقون معرفة تستفيد منها الحكومات والشركات دون أن يطالبوا بحقوق ملكية فكرية. إذا كان الباحث سيغادر إلى عالم ريادة الأعمال، فمن سيبقى داخل النظام الأكاديمي لإنتاج الأوراق البحثية؟ إذا قرر الباحث أن يعمل على تطوير شركته الخاصة، فمن الذي سيكتب الاقتباسات للأبحاث المستقبلية؟ لهذا السبب، نجد أن الانتقال من البحث الأكاديمي إلى التطبيق العملي ليس مجرد قرار فردي، بل هو قرار يتعارض مع المصالح الراسخة للمنظومة الأكاديمية ككل. ولهذا السبب، فإن عدد الباحثين الذين ينجحون في تحويل أبحاثهم إلى مشاريع تجارية لا يزال قليلًا مقارنة بعدد الباحثين الذين يبقون داخل النظام الأكاديمي، ينشرون المزيد من الأوراق، ويعيدون إنتاج نفس الدورة البحثية مرة بعد مرة.
خاتمة: هل يمكن للباحثين كسر هذه الحلقة؟
العالم لا يحتاج إلى المزيد من الأوراق البحثية التي لا تقرأ إلا من قِبل قلة من المختصين. العالم يحتاج إلى أفكار يتم تطبيقها، إلى حلول تخرج من المختبرات إلى الأسواق، إلى عقول تستطيع أن ترى ما هو أبعد من حدود المجلة العلمية. لكن لكي يحدث هذا، لا بد من تغيير جذري في طريقة تفكير الباحثين أنفسهم. عليهم أن يدركوا أن البحث العلمي ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لفهم العالم وتحسينه. عليهم أن يتوقفوا عن قياس نجاحهم بعدد الاقتباسات، ويبدأوا في قياسه بمدى تأثير أفكارهم في حياة الناس. عليهم أن يدركوا أن المعرفة الحقيقية ليست تلك التي تبقى حبيسة الكتب، بل تلك التي تجد طريقها إلى الواقع، حيث يمكنها أن تصنع فرقًا حقيقيًا. إذا استطاع الباحثون التحرر من هذه القيود، وإذا استطاعوا تجاوز الخوف من الخروج إلى العالم الحقيقي، فقد نشهد يومًا ما تحولًا حقيقيًا في العلاقة بين البحث العلمي والتطبيق، حيث لا يكون النشر هو الغاية، بل يكون مجرد خطوة على طريق التغيير الفعلي.